غادة محفوظ تكتب قوة الهوية دعامة الأمن القومي

لم يعد الأمن القومي في العصر الحديث مهمة مقتصرة على المؤسسات الأمنية أو العسكرية، بل أصبح مشروعًا وطنيًا واسعًا تُشارك فيه الدولة والمجتمع على حد سواء. فالحماية اليوم لا تتحقق بالسلاح فقط، بل تتحقق بوعي المواطن، وقوة النسيج الاجتماعي، وتماسك المؤسسات، وقدرة الدولة على مواجهة التهديدات المعقدة التي تتجاوز المعارك التقليدية لتصل إلى الاقتصاد والثقافة والمعلومات والبيئة والهوية.
المسؤولية الاجتماعية أصبحت جزءًا أصيلًا من منظومة الأمن القومي، لأنها تمثل الوجه المدني للحماية. فعندما يتحمل المواطن مسؤوليته تجاه مجتمعه، ويشارك في دعم المؤسسات، ويقف في صف الدولة ضد محاولات التشويه أو التحريض، فإنه يتحول تدريجيًا إلى خط دفاع لا يقل أهمية عن القوة العسكرية. المجتمع المتضامن، المترابط، القادر على احتواء أزماته الداخلية، هو مجتمع يصعب اختراقه أو زعزعة استقراره. وكلما ارتفع الوعي، تراجعت قدرة الشائعات والحروب النفسية على خلق الفوضى.
تبدأ المسؤولية الاجتماعية من شعور الفرد بالانتماء، ومن إدراكه أن استقرار الدولة جزء من استقراره الشخصي. حين يحترم المواطن القانون، ويحافظ على موارد بلده، ويشارك في العمل والإنتاج، فإنه يضيف لبنة جديدة في جدار الأمن الوطني. وحتى أبسط السلوكيات اليومية—كالتعامل الواعي مع وسائل التواصل، أو مساندة الفئات الضعيفة، أو ممارسة النقد المسؤول—تصبح عناصر فاعلة في منظومة الحماية الأكبر.
أما الأمن القومي، بمفهومه الشامل، فقد أصبح يشمل الأمن الاقتصادي الذي يحفظ قدرة الدولة على مواجهة الأزمات، والأمن البيئي الذي يضمن حماية الموارد للأجيال القادمة، والأمن الثقافي الذي يصون الهوية الوطنية، والأمن الرقمي الذي يحمي العقول قبل الشبكات، إلى جانب الأمن الاجتماعي الذي يمنع التفكك ويعزز الثقة بين المواطن والدولة. وهذه الأبعاد كلها لا يمكن أن تنجح إذا بقيت الدولة وحدها في الساحة. فالدول التي تُحصّن شعوبها بالوعي، وتُشركهم في تحمل المسؤولية، تملك أمنًا قوميًّا أكثر رسوخًا من الدول التي تعتمد على القوة الصلبة وحدها.
الواقع يؤكد أن أقوى الدول ليست تلك التي تمتلك أكبر الجيوش، بل تلك التي تمتلك مجتمعات صلبة قادرة على مواجهة الأزمات دون الانهيار. والمجتمع القادر هو المجتمع الذي يعرف واجباته، ويتحرك بحس وطني، ويضع مصلحة الدولة فوق الاعتبارات الفردية. وعندما تجتمع قوة الدولة مع وعي المواطن، تُصبح فكرة الأمن القومي مشروعًا حيًّا لا يتوقف، مشروعًا يحمي الهوية، ويحافظ على الاستقرار، ويضمن للأجيال القادمة وطنًا آمنًا ومستقرًا.
وفي الختام، يبقى الأمن القومي مسؤولية مشتركة لا تنفصل عن المسؤولية الاجتماعية. فالدولة القوية تحتاج إلى مجتمع واعٍ، والمجتمع الواعي يحتاج إلى دولة قادرة، وبين الاثنين تنشأ المعادلة الذهبية التي تصنع أمن الوطن واستقراره