مصر.. دولة التلاوة والريادة عبر العصور

بقلم د : رشا يحيي
منذ فجر التاريخ ومصر مهد الحضارة وأرض الإبداع، والذى يتنفسه شعبها كما يتنفس الهواء.. فهنا تشكلت أولى ملامح الموسيقى والعمارة والكتابة والعلوم والسياسة.
على ضفاف النيل وُلد الفن، وفي معابد مصر وصروحها الشامخة نطقت الحجارة بالجمال.. ولم تكن مصر فقط ملتقى للحضارات، ولكنها صانعة لها، ومنها انطلقت الشرارة الأولى للفنون التى صنعت وجدان الأمم، فقد اختصها الله بأن تكون المصدر الأول للمعرفة والتقدم على يد نبى الله إدريس، المؤسس الأول للتحضر والرقى والعلوم وفن العمارة والإدارة والتخطيط.. وظلت مصر على مدار تاريخها موطنا للإبداع، والذى لم يقتصر على الفنون الدنيوية، بل امتد إلى الفنون الروحانية، وعلى رأسها فن تلاوة القرآن الكريم الذي امتزج فيه العلم بدقة الأداء، فأصبحت التلاوة صورة من صور عبقرية المصريين التي تتجدد عبر العصور.
وقد قيل عنها: “إن القُرآن نزل فى مكة، وطُبع فى إسطنبول، وقُرئ فى مصر”.
بدأت ملامح المدرسة المصرية للتلاوة في القرن الأول الهجري، حين وفد إلى مصر عدد من الصحابة الذين جمعوا بين الحفظ والفقه مثل عقبة بن عامر الجهني وعبدالله بن عمرو بن العاص وعبدالله بن عباس وابن الزبير وأبو ذر الغفاري. وعلى أيديهم قُرئ القرآن وشرّح، لتتبلور أولى مدارس التلاوة التي دمجت بين القراءات القادمة من مكة والمدينة والشام.. ومع نهاية القرن الأول الهجري تشكلت مدرسة مصرية سمحت للقراء المختلفين وأساليبهم المتنوعة بأن تتلاقى وتزدهر معًا، فصارت مصر مركزًا للعلماء والقراء، وفي القرن الثاني لمع نجم أعلام كبار مثل الليث بن سعد وسقلاب بن شيبة، ثم جاء الإمام ورش عثمان بن سعيد المصري، الذي انتقل إلى المدينة ليتلقى القراءة عن نافع المدني، قبل أن يعود إلى مصر ويتولى رئاسة مشيخة عموم المقارئ التي تأسست سنة 117هـ في جامع عمرو بن العاص.
مع مرور الزمن، برزت أسماء لامعة في القرون اللاحقة مثل داود بن أبي طيبة وأبو الأزهر عبدالصمد العتقي وأبو يعقوب الأزرق، لتثبت مصر مكانتها كمركز علمي وملتقى للقراء من مختلف البلاد الإسلامية.
وتميزت المدرسة المصرية بارتباطها الوثيق بمدرسة المدينة المنورة، إذ رسخت قراءة ورش وأشاعت طريقته في مصر وما حولها، ولم يكتف علماؤها بحفظ التلاوة وأدائها، بل دوّنوا قواعدها في مؤلفات دقيقة تناولت موضوعات نطق الحروف وصفاتها، وتغليظ وترقيق اللام، والاختلافات السباعية في القراءات، والقراءات الشاذة.
مع قيام الدولة الفاطمية ازدهرت رواية ورش وصار الفسطاط مقصدًا لطلاب القراءات من المغرب والأندلس والسودان، وامتلأ جامع القراء بحلقات التعليم قرب جامع عمرو بن العاص. وبرز في القرون اللاحقة جملة من أعلام الأداء مثل أحمد بن سعيد بن نفيس (أبو العباس) وابن الخشاب وأبي الحسن المصري، بينما نشأت ظاهرة قراءة الجوق حيث تتلو مجموعة من القراء القرآن بألحان ومقامات موسيقية تطرب المستمعين، وارتبطت هذه الطريقة بالمواسم الدينية ومجالس العزاء في عصر المماليك، ولكن انصرف الناس عنها بسبب إنكار العلماء لها، لانغماسها في التطريب على حساب التجويد.
لم يقتصر تأثير المدرسة المصرية على حدود مصر فحسب، بل امتد إلى الأقطار الأخرى، فقد خرج منها مشايخ كبار لنشر الإقراء، ومن أبرزهم أبو الحسن التميمي الأنطاكي الذي قدم من أنطاكية إلى مصر وأصبح فيما بعد شيخ قراء الأندلس وسندًا للإقراء فيها بعد أن استقدمه الخليفة المستنصر بالله سنة 352هـ.
وفي أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بدأت المدرسة الحديثة للتلاوة مع شيوخ كبار مثل حسن الصواف ومحمود القهاوي وحنفي برعي وأحمد ندا، وكان الشيخ أحمد ندا من أبرز مقرئي هذه المرحلة، إذ جمع بين الإتقان وحلاوة الصوت.
بلغ هذا الفن ذروته مع محمد رفعت (1882–1950)، المعروف بـ “قيثارة السماء”، حيث شهدت الإذاعة المصرية أول بث للقرآن بصوته عام 1934، وقد امتازت هذه المرحلة بأن الأصوات ترتفع بلا مكبرات لكنها كانت تخترق القلوب وتبني عالمًا من الخشوع والروحانية، يجتمع فيه التدبر بالطرب الرفيع، الذى يخاطب الروح قبل الأذن.
وبرز الكثير من القراء الآخرين من أهمهم الشيخ عبد الباسط عبد الصمد الذي يُلقب بـ “الحنجرة الذهبية” والشيخ محمد صديق المنشاوي، بالإضافة إلى الشيخ مصطفى إسماعيل.. وغيرهم الكثير فى الماضى والحاضر.
ولا يمكن أن نغفل دور المقرئات في إثراء فن التلاوة فى مصر، وقد روى الكاتب الصحفي محمود السعدنى فى كتابه ( ألْحان السماء) قصص بعض السيدات اللاتي برزن ضمن رموز تلاوة القرآن الكريم في مصر، منذ الأربعينيات وحتى منتصف السبعينيات، حين انطفأ نور القارئات بعد رحيل الشيخة نبوية النحاس عام 1973. والتى كانت آخر سيدة تتلو القرآن في المناسبات العامة، وفي الاحتفالات الرسمية، وأيضًا في المآتم والأفراح، وكان الاستماع إليها محصورًا على النساء في القسم المخصص لهن بمسجد الحسين.
ومن أشهر القارئات الشيخة أم محمد، التي اشتهرت في عهد محمد علي باشا، وكانت موضع إعجاب كبار القادة والأمراء، حتى إن محمد علي أمر بسفرها إلى إسطنبول لإحياء ليالي رمضان في حرملك السلطانة العثمانية.. وحازت على العديد من الجوائز والهدايا والنياشين، وعندما توفيت، قبل هزيمة محمد علي ومرضه، دُفنت في مقبرة خصصها لها والي مصر، وأُقيمت جنازتها في احتفال مهيب.
اشتهرت بعدها في زمن لاحق، السيدة منيرة عبده، التي ظهرت عام 1920 وهي فتاة لم تتجاوز السادسة عشرة، حيث امتزج صوتها الرقيق بالقوة والوقار، ونجحت في منافسة كبار المشايخ من المقرئين، وذاع صيتها في البلاد العربية، حتى أذاع راديو لندن وباريس تسجيلات لتلاوتها، وعند إنشاء الإذاعة الرسمية بالقاهرة، كانت من أوائل من تلوا القرآن فيها، وتلقّت راتبًا يصل إلى سبعة جنيهات ونصف، ثم ارتفع إلى عشرة جنيهات بعد زيادة أجر الشيخ رفعت، ولكن في عام 1939، صدرت فتوى بأن تلاوة المرأة للقرآن تغضب الملائكة، فابتعدت منيرة عن الإذاعة، وتوقفت محطات لندن وباريس عن بث صوتها، رغم آلاف الرسائل التي طالبت بعودتها.
أما الشيخة أم السعد، فقد كانت آخر جيل القارئات، وحافظت على نهجها في إحياء المناسبات الدينية رغم عدم تمكنها من الوصول إلى الإذاعة بسبب فتوى تحريم صوت المرأة، وقد قضت حياتها في حفظ القرآن، وتميزت بإتقان القراءات العشر، ومنحت إجازاتها في هذه القراءات للرجال والنساء على حد سواء، كبارًا وصغارًا، حتى تجاوزت الثمانين من عمرها.
وقد تأثرت طفولتها بوصفات شعبية أثرت على نظرها، كما كان الحال مع كثير من الأطفال في الريف، فكرّس أهلها أمرها للقرآن منذ الصغر، أرسلت إلى الكتاب حيث حفظته وأتمته في الخامسة عشرة، ثم انتقلت لتتعلم القراءات العشر على يد الشيخة نفيسة بنت أبو العلا، التي اشترطت عليها عدم الزواج لضمان إتمام حفظها، فوافقت أم السعد في ذلك الوقت.. وأتمت أم السعد حفظ القرآن بالقراءات العشر، لتصبح واحدة من الحافظات بالتواتر، ويصل بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم 27 راوياً.
لكن أم السعد لم تحافظ على عهدها لمعلمتها، فتزوجت من أحد المشايخ الذي أخذ إجازاته القرآنية على يدها، وسافرت للعديد من الدول العربية لتعليم وحفظ القرآن، أمضت سنتين في المملكة العربية السعودية، وكان يتعلم على يدها الكثيرون من الرجال والنساء، حتى صارت من أعلام تلاوة القرآن في مصر والعالم العربي، محافظة على عطائها ووفاءها للقرآن طوال حياتها.
وفي هذا السياق العريق، جاء برنامج «دولة التلاوة» ليقدّم للمشاهدين عملًا استثنائيًا يليق بتاريخ مصر وفنها الروحاني، فقد جاء البرنامج بفكرة مبتكرة تعيد الاعتبار لفن التلاوة وتستحضر أمجاد روادها، في قالب بصري ودرامي يجمع بين الدقة التاريخية والإخراج الفني وروحانية التلاوة وسردًا جذابًا يأخذ المشاهد في رحلة بين القرون، يلتقي برجال شكّلوا وجدان الأمة ويستمع إلى أصوات خرجت من زمن الأنوار.. وقد أبهرت الحلقات الأولى الجمهور ولم يقتصر تأثيرها على المشاهدين المسلمين فحسب، بل اجتذب أيضًا عددًا من المشاهدين المسيحيين الذين وجدوا فيه قيمة إنسانية وجمالية رفيعة، إذ لم تكن التلاوة مجرد أداء ديني، بل فناً راقيًا وإنسانية صافية تتذوقها كل عين وقلب يعرف الجمال.
ولم يكن نجاح البرنامج ليتحقق دون الإعلامية آية عبد الرحمن، مقدمة البرنامج، التي أضافت للعمل بعدًا آخر من الاحتراف والأناقة. فقد جاءت إطلالتها مزيجًا بين الوقار والبساطة، وقدّمت المحتوى بصوت هادئ رصين يليق بجلال الموضوع وروحانيته. واستطاعت بخطوات واثقة ولغة عربية سليمة أن تربط المشاهدين بالمادة التاريخية والعلمية للبرنامج دون جمود أو تكلف.
بدأت الإعلامية آية عبد الرحمن عملها التلفزيوني في قناة الحدث العراقية، ثم في قناة النهار بعد اجتيازها مسابقة تقدم لها أكثر من ثلاثة عشر ألف متسابق، واختيرت ضمن ستة فقط، وعملت خمس سنوات في راديو مصر، وتدربت في إذاعة الشرق الأوسط وصوت العرب، وقد قدمت أيضًا برامج سياسية وحوارية مهمة مثل برنامج “الحقيقة”، وشاركت في تغطية كبرى الأحداث الوطنية والدولية، منها منتدى شباب العالم، وأجرت حوارات مع الرئيس عبد الفتاح السيسي وعدد كبير من الوزراء وكبار الضيوف، وأدارت جلسات رئيسية في مؤتمرات وفعاليات الدولة، وتميزت بحضور قوي وقدرة مهنية عالية على إدارة الحوار، وحصلت على درجة الماجستير في الإعلام التربوي من كلية التربية النوعية بجامعة القاهرة بتقدير امتياز، وتعمل مدرسًا مساعدًا في الإعلام التربوي، إضافة إلى حصولها على دبلومة في النقد الفني ودبلومة في مسرح الأطفال.
لذلك فقد كانت اختيار موفق شكلا وموضوعا لروح البرنامج وطابعه الجاد، وساهمت بخبرتها في نجاح البرنامج، فصاغت الجُمل بإحساس ونقلت الفكرة بصدق، ورافقت رحلة التلاوة بكاريزما هادئة وجاذبية تلائم مستوى العمل، لتجعل المشاهد يشعر بأنه أمام عمل متكامل العناصر، يرتفع فيه الأداء الإعلامي إلى مستوى الفكرة والرسالة.
ونتمنى من هذا البرنامج الرائع ألا يغفل دور المقرئات في إثراء فن التلاوة، فهنّ يستطعن أن يضفن بعدًا خاصًا للبرنامج بروحهن وأدائهن المتميز.. لذلك نرجو أن يتوسع ليشمل فئة للنساء، وأخرى للأطفال، دون خلط بين الاطفال والكبار، كى يصبح منصة شاملة لاكتشاف المواهب من الجنسين في كل الفئات العمرية ، ويعزز من استمرارية إرث التلاوة المصرية الأصيلة.
لقد أثبت برنامج «دولة التلاوة» أن مصر ما زالت قادرة على إنتاج أعمال تلفزيونية تُشرّف تاريخها، وترتقي بذائقة الجمهور، وتعيد للأذهان أمجاد فنّ كان ولا يزال أحد وجوه ريادتها.
إن مصر، بتاريخها العريق وحاضرها المتجدد، لم تكن يومًا مجرد متلقية للفن، بل منبعًا للإبداع ومختبرًا تتشكل فيه الذائقة العربية، وصوتًا يصل إلى كل قلب، ويبعث في النفس روح الخشوع والتأمل. وقد بقيت التلاوة المصرية على مر العصور مدرسة فريدة لا يشبهها غيرها في الاتساع والتأثير، وما زال صوتها أعذب ما وصل إلى أرواح الناس، وأعمق ما تركته فيهم من خشوع وتدبر وسمو.. ويظل برنامج «دولة التلاوة» نموذجًا رائدًا لإحياء التراث، وإظهار عظمة التلاوة المصرية في أبهى صورها، ويعيد للأجيال القادمة معرفة كيف صُنعت مصر عظمة الصوت وعمق التجويد وروح هذا الفن الخالد.